توفيق اجانا
عرفت مدينة مكناس الوقفات الاحتجاجية التي أثارت اهتمامًا واسعًا في الفضاء العمومي، ليس فقط لطبيعة المطالب التي رفعها المشاركون، بل أيضًا للطريقة اللافتة التي أدارت بها المصالح الأمنية هذه الوقفات. فقد حظي تعامل رجال الأمن بإشادة كبيرة من طرف فاعلين حقوقيين ونشطاء منصات التواصل الاجتماعي، الذين اعتبروا أن ما جرى يشكل نموذجًا حيًا لما يمكن أن يكون عليه التدبير الأمني في لحظات التوتر.
المشهد الذي عاشته العاصمة الإسماعيلية خلال هذه الوقفات أبان بوضوح عن تحول نوعي في المقاربة الأمنية، حيث اختارت القيادات الميدانية نهج الاحتواء وضبط النفس بدل الصدام، ما سمح بمرور الاحتجاجات في أجواء هادئة، دون تسجيل أي تجاوزات أو احتكاكات. هذا الاختيار ساهم في تعزيز الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وأعطى انطباعًا قويًا بأن هناك إرادة حقيقية في حماية الحق في التعبير مع الحفاظ على النظام العام.
كما ساعد وعي شريحة واسعة من الشباب المحتج على إنجاح هذه التجربة، حيث التزموا بالسلمية وأكدوا من خلال سلوكهم أن الاحتجاج يمكن أن يكون حضاريًا إذا ما تلاقت فيه رغبة المواطن في التعبير المشروع مع حرص الأجهزة الأمنية على احترام هذا الحق. ورغم بعض الاستفزازات التي صدرت عن مراهقين، فإن رجال الأمن تعاملوا معها بكثير من الهدوء والاحترافية، ما حال دون أي انزلاق محتمل.
إلى جانب ذلك، سهرت العناصر الأمنية على ضمان انسيابية الحركة في الشارع وتأمين الممتلكات العامة والخاصة، ما جعل الحياة اليومية للمدينة تستمر بشكل طبيعي . هذا التوازن بين حماية الحق في التظاهر والحفاظ على النظام العام أظهر أن المعادلة الصعبة يمكن تحقيقها عبر إدارة ذكية ومرنة للوضع الميداني.
تجربة الوقفات الاحتجاجية في مكناس تقدم جوابًا عمليًا عن السؤال الذي يُطرح دائمًا في النقاش العمومي المغربي: كيف يمكن الجمع بين احترام الحقوق الأساسية للمواطنين وضمان الاستقرار العام؟ الجواب بدا جليًا في هذا النموذج الذي جمع بين الصرامة الهادئة والانفتاح، وبين ضبط النفس وإشراك الشارع في التعبير عن مطالبه دون المساس بالثوابت الأمنية.
وإذا كان الأمن قد أبان عن قدرة واضحة على إدارة مثل هذه اللحظات باحترافية، فإن المسؤولية تبقى مطروحة على الفاعلين السياسيين وصناع القرار من أجل مواكبة هذا التحول بخطوات عملية على مستوى الاستجابة للمطالب الاجتماعية المرتبطة بالصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية والكرامة، حتى لا يبقى الأمن وحده في الواجهة، بل يصبح جزءًا من منظومة متكاملة تعالج جذور الاحتقان وتفتح آفاقًا أرحب لبناء الثقة بين المواطن والدولة.
وبذلك، يمكن القول إن ما عاشته مكناس خلال هذه الوقفات الاحتجاجية لم يكن مجرد أحداث عابرة، بل درسًا مزدوجًا في كيفية إدارة المجال العمومي: من جهة، قدرة الأجهزة الأمنية على التدبير الهادئ والمسؤول، ومن جهة أخرى، استعداد الشباب المغربي لتبني أساليب سلمية وحضارية في التعبير عن تطلعاته. وبين هذين البعدين، تترسخ قناعة بأن مستقبل العلاقة بين الدولة والمجتمع في المغرب يمر عبر الحوار والاحترام المتبادل، لا عبر المواجهة أو الإقصاء.