
توفيق اجانا
في مشهد يختزل واقع التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المغرب، يبرز جيل Z كفاعل جديد في صياغة الخطاب العام وتشكيل الرأي، جيل يؤمن بالتغيير السلمي عبر الفعل الرقمي والميداني، لكنه في الوقت نفسه أصبح شاهدًا على التحول العميق الذي تعرفه البلاد بين منطق الاحتجاج ومنطق البناء المؤسساتي.
هناك من فضّل الانسحاب بهدوء بعدما لاحظ أن الحركة التي انطلقت بشعارات قوية للدفاع عن العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، بدأت تنحرف تدريجيًا عن مسارها الأصلي. فقدت روحها الأولى، وانزلقت إلى مساحات من التناقض والارتباك في الخطاب، حتى تحولت إلى مجرد صدى لمواقف متسرعة تفتقر إلى العمق والرؤية. ومع مرور الأيام، انكشف الغطاء عن جوهرٍ مغاير لما كان يُعلن في الشعارات؛ إذ تسللت إلى صفوفها أصوات نشاز لا تُخفي جفاءها تجاه الملكية، ولا تورعها عن المساس بثوابت الوطن ووحدته الترابية، في لحظةٍ كان المغرب فيها يُراكم خطواته الواثقة نحو انتصارٍ جديد على أعداء وحدته. وهكذا، تلاشى البريق الأول، وذابت الحماسة في زوايا التناقض، بعد أن غابت البوصلة وتبدّد الهدف.
هذا التحول لم يكن سوى نتيجة طبيعية لتراكم سوء التقدير، وغياب الانسجام الداخلي، وسيطرة نزعة ردّ الفعل بدل الفعل الواعي. فبينما كانت المطالب المشروعة تتطلب وضوحًا في الموقف ونضجًا في المقاربة، اختارت الحركة طريق المواجهة الرمزية دون امتلاك أدوات التحليل أو البدائل الواقعية. وهنا بدأت تفقد التعاطف الشعبي، وتتحول إلى كيان متنافر مع ذاته قبل أن يتنافر مع الآخرين.
لكن في المقابل، لم تبق الدولة مكتوفة الأيدي، ولم تُهمل تلك المطالب التي عبّر عنها الشارع والشباب. فقد أخذت القضايا المطروحة طريقها الطبيعي نحو المعالجة المؤسسية، وهو ما عبّر عنه جلالة الملك بوضوح في خطابه أمام البرلمان، حين أكد على ضرورة العمل الجاد والمسؤول لاستكمال الإصلاحات الكبرى وتنفيذ البرامج الاجتماعية والتنموية المفتوحة، داعيًا إلى مزيد من اليقظة والالتزام في خدمة قضايا المواطنين.
الخطاب الملكي، في رمزيته الدستورية وعمقه العملي، لم يكن مجرد إعلان سياسي، بل تأكيد على أن التغيير الحقيقي لا يتم بالصراخ أو الفوضى، بل داخل المؤسسات. الملك وجّه البرلمان والحكومة إلى إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، محذرًا من تضارب المشاريع ومذكرًا بأن العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية ليست شعارًا، بل توجّه استراتيجي يهم مستقبل الأجيال.
وفي هذا السياق، يبرز مشروع قانون المالية لسنة 2026 كترجمة عملية لهذه الرؤية الملكية، إذ يعزز الاستثمار العمومي ليصل إلى 380 مليار درهم، في خطوة تهدف إلى دعم المشاريع الهيكلية وتحفيز النمو الاقتصادي. كما يعكس الاهتمام المتزايد بقطاعي الصحة والتعليم التزام الحكومة بضمان الولوج العادل إلى الخدمات الأساسية لجميع المواطنين. ويشكل الرهان على العدالة المجالية والحماية الاجتماعية محورًا أساسيًا لهذا المشروع، باعتبارهما ركيزتين للنمو الشامل والمستدام.
وبذلك، يمكن القول إن مشروع قانون المالية يمثل أداة استراتيجية لبناء مغرب أكثر عدلًا وتضامنًا ومرونة.
أما على مستوى التشغيل، فقد أظهرت مؤشرات الفصل الأول من عام 2025 دينامية إيجابية، حيث بلغ عدد المناصب المحدثة 282 ألف منصب شغل، منها 3 آلاف بالوسط الحضري و285 ألفًا بالوسط القروي، في دلالة واضحة على اتساع نطاق المبادرات الاقتصادية وارتفاع وتيرة الإدماج المهني.
وفي الإطار ذاته، شهد المغرب توقيع اتفاقية صناعية كبرى بين الحكومة المغربية ومجموعة رونو الفرنسية، بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش، ووزير الصناعة والتجارة رياض مزور، والمدير التنفيذي للمجموعة فرانسوا بروفوست. هذه الاتفاقية تفتح آفاقًا واعدة لتطوير سلاسل الإنتاج المحلي ورفع تنافسية الصناعة الوطنية، مع توقع خلق حوالي 7.500 منصب شغل مباشر وغير مباشر خلال السنوات المقبلة، ما يعزز مكانة المغرب كوجهة صناعية عالمية رائدة في قطاع السيارات.
ولا يقتصر مسار التقدم المغربي على الجانب الاقتصادي، بل يمتد ليشمل المجال الرياضي، كرمز لنجاح النموذج الوطني في الاستثمار في الطاقات البشرية. فالإنجاز التاريخي الذي حققه المنتخب المغربي لأقل من 20 سنة بحصوله على لقب كأس العالم لكرة القدم، لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة عمل مؤسسي دام سنوات، في إطار أكاديمية محمد السادس لكرة القدم التي أصبحت نموذجًا رائدًا في التكوين الرياضي الحديث على المستوى القاري.
كما يواصل المغرب تعزيز مكانته الدولية من خلال استضافته المرتقبة لعدد من التظاهرات الرياضية الكبرى، أبرزها كأس الأمم الإفريقية 2025، وكأس العالم للأندية، وكأس العالم 2030 التي ستُقام بشراكة مع إسبانيا والبرتغال. وهي استحقاقات تؤكد ثقة المجتمع الدولي في قدرة المغرب على التنظيم المحترف، وتجسد ما بلغه من تطور في البنيات التحتية واللوجستية.
ورغم المحاولات اليائسة لبعض خصوم النجاح الذين يسعون إلى التشويش عبر وسائل التواصل الاجتماعي، معتمدين على حسابات وهمية وحملات تضليلية، فإن الواقع على الأرض يكشف فشل هذه المناورات، إذ تتضح معالم التقدم الوطني أكثر فأكثر، سواء من جهة إنجازات الدولة أو من جهة وعي المواطنين الذين باتوا يميزون بين النقد البنّاء والتحريض الممنهج.
وفي النهاية، يعلّمنا هذا التحول أن صوت الشارع قد يكون الشرارة، لكن صوت الدولة هو من يصنع الفعل. وبين من اختار الانسحاب بهدوء، ومن آمن بأن الإصلاح طريق طويل لا يُختصر في الشعارات، يبقى الرهان الأكبر هو بناء وعي جماعي يؤمن أن الوطن يُبنى بالعقل والعمل، لا بالضجيج والانقسام، وأن المغرب اليوم يسير بخطى ثابتة نحو المستقبل، مزدانًا بإنجازاته، ومحصنًا برؤية ملكية تستشرف الغد بثقة واستبصار




